تأليف : د. محمد عبده يماني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتبت قبل ما يزيد عن عشرين عاما مقالا للاجابة على سؤال في ذلك الوقت : هل يصنع التلفزيون مجرما ؟؟ .. وترجح لدي ان التلفزيون لا يصنع مجرما ، وانما قد ينمي بعض السلوك السيء ، ويغرس عادات تربوية لا اخلاقية في الاطفال .
لكنني اليوم بعد ان اطلعت وغيري على نتائج الدراسات للمؤتمرات الاعلامية بشكلها العام التي توصلت الى حقائق مهمة منها ان ثورة الاتصالات باشكالها المختلفة بما فيها القنوات التلفزيونية الفضائية اصبحت تؤثر بل وتقود الى مجموعة من العادات التي قد تصنع مجرما من طفل بريء ، وفي مجمل هذا الأمر فإن القضية لم تعد كما كتبت في ذلك الوقت مؤثر تلفزيوني ومجرد قناة او قناتين فيها برامج دينية وثقافية وغنائية ولكن القوة الاعلامية المؤثرة في الطفل انتقلت الى مجموعة اكبر من المؤثرات الاعلامية ، ودخلت في ادوات التسلية للطفل في غفلة من الآباء عبر اجهزة البلاي ستيشن والنينتيندو والسيجا والإكس بوكس وغيرها ، وركبت بعض الشركات موجات التقنية الحديثة لتصل الى الطفل بثقافات خطرة عبر المواقع المحتلفة الخاصة بالأطفال والناشئة في شبكة الانترنت ، ومواقع المحادثة ( المسنجر ) وعبر مواقع الخدمة البريدية ( الأيميل ) و ( اليوتيوب ) وغيرها .
وفي تقرير حديث عن الألعاب الالكترونية وأخطارها في منازلنا ، تحدثت الباحثة جنان حسين في تقرير لها نشر بمجلة اليمامة بتاريخ 30 يناير 2010 : " ان معرفة اطفالنا بالتقنية الحديثة ليس خيرا مطلقا ، لأن هذه البرامج التي تحاصرهم بشتى الوانها وهم جلوس أمام الكمبيوتر او يتحدثون في الجوال او يلعبون يمكن أن تتحول الى أمراض مزمنة في المستقبل ، وان معظم الألعاب التي اصبح يقبل عليها الأطفال ويحرصون على مزاولتها عبر أجهزة الكمبيوتر المحمول تعتمد على العنف والإنتقام وحب التدمير ، وقضايا أكثر عنفا وأكثر خطورة .
ولفت هذا البحث النظر الى ان الشركات تحرص على تطوير برامجها ليكون فيها عامل الجذب بصورة اكبر وابهار دون الالتفات الى أي معايير تربوية او نفسية ، ولاشك ان مما يساهم في ذلك ضعف الدور الأسري ، وغياب كامل عن هذه الهجمة الجديدة ، ومقابل ذلك ندرة البرامج التربوية الهادفة ، اضف الى اضرار صحية بسبب الأشعة الكهرومغناطيسية التي تصدر من بعض هذه الألعاب ، وتؤثر على مرضى الصرع ، وتسبب موجات من التشنج في بعض الأحيان ، وقد تسبب امراضا عصبية أخرى في اليد والرقبة .
لكن الأخطر هو أن جلوس الطفل مع هذه الأدوات الاعلامية الالكترونية يشكل خطرا واضحا ، ونحن في غفلة عنه ، وكذلك الآباء والأمهات ولا ننتبه الا بعد حدوث الكارثة " وأنا ممن يؤيد هذا الاتجاه ، وأننا اصبحنا امام تحدي جديد يتطلب العناية بالطفل وما يشاهد قبل العناية بما يأكل ، ولابد من تقنين مدة المشاهدة ووقت الألعاب بالكمبيوتر .
ومن هنا نجد ان بعدا جديدا قد دخل في هذه القضية ، فهذه الألعاب والبرامج التي يغفل عنها الآباء والمدرسون يقع الطفل ضحية لها ، لأنها تأخذ بيده الى عالم العنف والصدام مع الأسرة ومع ما حوله من حوله ، بل قد تقفز به الى مراحل متقدمة من الجريمة تغرسها في نفسه انواعا من الألعاب التلفزيونية المباعة مثل ( حرامي السيارات ) و ( كول اوف ديوتي ) و ( رزيدنت ايفل ) التي تغرس الجريمة نفسها والوان من الدعارة والسخرية من الأبوين والعنف مع الآخرين في نفوس هؤلاء الأطفال.
ومن هنا فانني احس ان من واجبنا ان نعيد النظرة في قضية الألعاب وليس عن طريق المنع ، فنحن لن نستطيع منعها بأي حال من الأحوال ، فهي تأتي عبر قنوات ووسائل تسلية لا قبل لنا بصدها ، وانما كل الذي نستطيع ان نفعله هو ان نعين اولادنا على حسن الإختيار ، ثم ان نؤدي الواجب بالجلوس معهم بين وقت وآخر لمشاهدة هذه الألعاب المختلفة حتى لا تكون الصدمات قوية ، وهم على انفراد ، فقد اصبحت فعلا ادوات خطيرة جدا تغرس الوانا من الممارسات في نفوس الأطفال ، وقد ينشأ الطفل على مثل هذه العادات لأنه تعلمها في غفلة منا ، في وقت نشتريها نحن له للتسلية .
وقد اسعدني ان كنت ذات صباح اشاهد برنامج ( صباح السعودية ) ، وقدم البرنامج صورا من هذا اللون من الألعاب وخطورتها ، واستضاف بعض اساتذة الجامعات ورجال الإجتماع ، فشاركوا في القاء الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة ، وكانت اسئلة مقدما البرنامج الابن محمد الرديني والابنة سميرة المدني جميلة ساهمت في ايضاح الصورة .
ومن هنا فإنني اشعر بأنني قد غيرت رأيي فعلا ، بعد أن كتبت يوما من الأيام ، وتحدثت عن هذا الموضوع لأجد ان الأمر قد اختلف الآن ، فقد كتبت في حديثي السابق قبل عشرين عاما وقلت يومها : " ان من واجبنا ان ندرس ونتنبه لأبعاد ومخاطر هذا البث القادم الذي اخذت دول العالم تتحسب له ، حتى ان اوربا قد عقدت عدة مؤتمرات درست فيها اثر الأقمار التلفزيونية على اجيالها وعلى الرغم من اتجاه اوربا الى التقارب الاقتصادي والسياسي الا ان كل دولة تريد ان تحافظ على شخصيتها الثقافية وتبقي ذاتيتها وتحرص على تمييزها والدول الأوربية مثلنا تخشى وتتخوف من البث القادم بواسطة تلفزيون بلاد حدود ، وهكذا فعلت اليابان واخذت تدرس ابعاد هذا الغزو على ثقافتها وقيمها وتفكيرها .
وهكذا يجب ان تعمل الدول النامية عموما وخاصة نحن في امتنا العربية والاسلامية لأن التأثير بالنسبة لنا اعظم حيث سيكون في اتجاه واحد ، فسوف نستقبل ونتأثر دون ان يكون لدينا أي خيار او قدرة على التبادل او التأثير المزدوج ، والفجوة بيننا وبينهم كبيرة وعميقة ، وقيمنا متباينة في كثير من الأحيان ، وتربيتنا مختلفة "
وقلت يومها ايضا ان كل اجراءات الحذر والمنع والرقابة لن تكون ذات جدوى ، لأن البث التلفزيوني سيصبح مثل البث الاذاعي تماما ، بل قد يتوسع بسبب القفزات التكنولوجية السريعة التي ستحول العالم الى قرية تلفزيونية صغيرة ، اضف الى ذلك كل هذه المؤثرات الى جانب التلفزيون التي أخذت تؤثر على اطفالنا بصور مختلفة ومؤثرة حتى أظهرت بعض الدراسات الميدانية والمختبرية كيف انها تؤثر في اتجاهات وقيم الأطفال الاجتماعية والسلوكية التي تتشكل على وجه الخصوص من خلال المشاهدات التلفزيونية المتكررة حتى ان بعض الأطفال يتأثر بشكل يفوق ابعاد المتعة العابرة او التسلية ، وبينت تلك الدراسات ان الأطفال الذين يتميزون بعدوانية سابقة هم الذين يتأثرون اكثر من غيرهم بمشاهد العنف التلفزيوني ، ولعل الاجابة من كل هذه الدراسات تـأتي لتؤكد ان التلفزيون فعلا يؤثر ويساهم في زيادة الجريمة وفي تنوعها وابتكار طرق جديدة لها وتطور اشكالها دون شك ولكنه لا يؤثر بمعزل عن العوامل والمتغيرات والظروف الاجتماعية والبيئية والنفسية للمجتمع ، وبالتالي فنحن نتوقع مع وصول البث التلفزيوني المباشر الى كل منزل ان يساهم في زيادة العنف والسلوك العدواني وربما الجريمة المباشرة ولكن لن يكون تأثيره بصورة متساوية في جميع المجتمعات ولا بنفس الدرجة لأن قضية التأثير سوف تخضع لعوامل اسرية وبيئية وثقافية ، فكلما كان المجتمع واعيا مدركا لأبعاد هذا الخطر كلما سهل تقليل اثره ومقاومته من قبل برامج جيدة للأسرة والمجتمع وسوف يكون تأثيره اكبر في الدول والمجتمعات التي تعاني من البطالة والفراغ وتردي مستوى التعليم لأن الحصانة الحقيقية لن تكون في منع هذا البث او تحريم تداوله ـ وهو ما يبدو امرا غير ممكنا مستقبلا ـ ولكن الحصانة تكون عن طريق التوعية وتحسين فرص العمل وتطوير مستويات التعليم وتنويعها بصورة تحقق حاجات المجتمع "
وختاما فالقضية تحتاج الى جهود مشتركة للتعامل مع الأدوات الاعلامية التي ذكرتها سابقا وفي مقدمتها التلفزيون والإنترنت ومواقها المختلفة ، واجهزة الالعاب الالكترونية للأطفال في عصر ثورة التقنية وثورة الاتصال ، وهو جهد يشترك فيه الوعي الوطني والوعي الثقافي والدور التربوي الذي يستوعب هذه المخاطر ، ولا يلجأ كما اسلفت الى موضوع المنع بل يدخلها بوعي تربوي داخل برامج التربية والتعليم ، ثم يأتي اهمية الدور الاعلامي وايجاد البدائل التي تشجع الناس والناشئة خاصة على مشاهدة برامجنا والموضوع بكامله يحتاج الى دراسة مستفيضة وخطوات جادة نواجه بها هذا المد الخطير .
والله من وراء القصد وهو الهادي الى سواء السبيل ،،